كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذا ظاهر آية البقرة {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29] الآية.
ونقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السموات مقدم، واختاره كثير من المحققين لتقديم السموات على الألاض في معظم الآيات التي ذكرا فيها واقتضاء الحكمة تقديم خلق الإشراف والسماء أشرف من الأرض ذاتًا وصفة مع ظاهر ءاية النازعات.
{أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بناها رَفَعَ} [النازعات: 27] الآية، واختار بعض المحققين أن خلق السموات بمعنى إيجادها بمادتها قبل خلق الأرض وخلقها بمعنى إظهارها بآثارها بعد خلق الأرض وبذلك يجمع بين الآيات التي يتوهم تعارضها، وتقديم السموات في الذكر على الأرض تارة والعكس أخرى بحسب اقتضاء المقام وهو أقرب إلى التحقيق، وعليه وعلى ما قبله فتقديم خلق الأرض هنا قيل لأنه أوفق بالتنزيل الذي هو من أحكام رحمته تعالى كما ينبىء عنه ما بعد وقوله تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرءان} [الرحمن: 1، 2] ويرمز إليه ما قبل فإن الأنعام على الناس بخلق الأرض أظهر وأتم وهي أقرب إلى الحس.
وقيل: لأنه أوفق بمفتتح السورة بناء على جعل {طه} [طه: 1] جملة فعلية أي طأ الأرض بقدميك أو لقوله تعالى: {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى} [طه: 2] بناء على أنه جملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من رفع إحدى رجليه عن الأرض في الصلاة كما جاء في سبب النزول، ووصف السموات بالعلى وهو جمع العليا كالكبرى تأنيث الأعلى لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى: {لَهُ الأسماء الحسنى} [طه: 8] مسوق لتعظيم شأن المنزل عز وجل المستتبع لتعظيم المنزل الداعي إلى استنزال المتمردين عن رتبة العلو والطغيان واستمالتهم إلى التذكر والإيمان.
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}.
{الرحمن} رفع على المدح أي هو الرحمن.
وجوز ابن عطية أن يكون بدلًا من الضمير المستتر في {خُلِقَ} [طه: 4] وتعقبه أبو حيان فقال: أرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ولا يحل هاهنا لئلا يلزم خلو الصلة من العائد اه، ومنع بعضهم لزوم اطراد الحلول ثم قال: على تسليمه يجوز إقامة الظاهر مقام الضمير العائد كما في قوله:
وأنت الذي في رحمة الله أطمع

نعم اعتبار البدلية خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ واللام للعهد والإشارة إلى الموصول وخبره قوله تعالى: {عَلَى العرش استوى} ويقدر هو ويجعل خبرًا عنه على احتمال البدلية، وعلى الاحتمال الأول يجعل خبرًا بعد خبر لما قدر أولًا على ما في البحر وغيره، وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ {الرحمن} بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه صفة لمن.
وتعقبه أبو حيان بأن مذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها كمن وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما فعندهم لا يجوز هذا التخريج فالأحس أن يكون {الرحمن} بدلًا من {مِنْ} وقد جرى في القرآن مجرى العلم في وقوعه بعد العوامل، وقيل: إن {مِنْ} يحتمل أن تكون نكرة موصوفة وجملة {خُلِقَ} صفتها و{الرحمن} صفة بعد صفة وليس ذاك من وصف الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها غاية ما في الباب أن فيه تقديم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو جائز اه وهو كما ترى.
وجملة {عَلَى العرش استوى} على هذه القراءة خبر هو مقدرًا، والجار والمجرور على كل الاحتمالات متعلق باستوى قدم عليه لمراعاة الفواصل، و{العرش} في اللغة سرير الملك وفي الشرع سرير ذو قوائم له حملة من الملائكة عليهم السلام فوق السموات مثل القبة، ويدل على أن له قوائم ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ادعوه فقال: لم لطمت وجهه؟ فقال: يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر فقلت: يا خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم فأخذتني غضبة فلطمته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون وأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» وعلى أن له حملة من الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7].
وما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة» وعلى أنه فوق السموات مثل القبة ما رواه أبو داود أيضًا عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس ونهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك أنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب» ومن شعر أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ** ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء العالي الذي بهر النا ** س وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا لا يناله طرف الع ** ين ترى حوله الملائك صورا

وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أنه مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة وهو محدد الجهات وربما سموه الفلك الأطلس والفلك التاسع.
وتعقبه بعض شراح عقيدة الطحاوي بأنه ليس بصحيح لما ثبت في الشرع من أن له قوائم تحمله الملائكة عليهم السلام، وأيضًا أخرجا في الصحيحين عن جابر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» والفلك التاسع عندهم متحرك دائمًا بحركة متشابهة، ومن تأول ذلك على أن المراد باهتزازه استبشار حملة العرش وفرحهم فلابد له من دليل على أن سياق الحديث ولفظه كما نقل عن أبي الحسن الطبري وغيره بعيد عن ذلك الاحتمال، وأيضًا جاء في صحيح مسلم من حديث جويرية بنت الحرث ما يدل على أن له زنة هي أثقل الأوزان والفلك عندهم لا ثقيل ولا خفيف، وأيضًا العرب لا تفهم منه الفلك والقرآن إنما نزل بما يفهمون.
وقصارى ما يدل عليه خبر أبي داود عن جبير بن مطعم التقبيب وهو لا يستلزم الاستدارة من جميع الجوانب كما في الفلك ولابد لها من دليل منفصل.
ثم إن القوم إلى الآن بل إلى أن ينفخ في الصور لا دليل لهم على حصر الأفلاك في تسعة ولا على أن التاسع أطلس لا كوكب فيه وهو غير الكرسي على الصحيح فقد قال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض».
وروى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وقد روي مرفوعًا والصواب وقفه على الحبر، وقيل: العرش كناية عن الملك والسلطان.
وتعقبه ذلك البعض بأنه تحريف لكلام الله تعالى وكيف يصنع قائل ذلك بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] أيقول ويحمل ملكه تعالى يومئذٍ ثمانية، وقوله عليه الصلاة والسلام: «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» أيقول آخذ بقائمة من قوائم الملك وكلا القولين لا يقولهما من له أدنى ذوق، وكذا يقال: أيقول في «اهتز عرش الرحمن» الحديث اهتز ملك الرحمن وسلطان، وفيما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا «لما قضى الله تعالى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده سبحانه وتعالى فوق الملك والسلطان» وهذا كذينك القولين، والاستواء على الشيء جاء بمعنى الارتفاع والعلو عليه وبمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى: {واستوت عَلَى الجودى} [هود: 44] {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] وحيث كان ظاهر ذلك مستحيلًا عليه تعالى قيل: الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء كما في قوله:
قد استوى بشر على العراق

وتعقب بأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز، وذلك محال في حقه تعالى، وأيضًا إنما يقال: استولى فلان على كذا إذا كان له منازع ينازعه وهو في حقه تعالى محال أيضًا، وأيضًا إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجودًا قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه سبحانه، وأيضًا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة.
وأجاب الإمام الرازي بأنه إذا فسر الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، ولا يخفى حال هذا الجواب على المنصف، وقال الزمخشري: لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على العرش البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل ولا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسًا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: جواد ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله} [المائدة: 64] الآية عنوا الوصف بالبخل ورد عليهم بأنه جل جلاله جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط انتهى، وتعقبه الإمام قائلًا: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم يقولون أيضًا: المراد من قوله تعالى: {اخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل، وقوله تعالى: {يانار كُونِى بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} [الأنبياء: 69] المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام عن يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة.
وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليست من لم يعرف شيئًا لم يخص فيه انتهى، ولا يخفى عليك أنه لا يلزم من فتح الباب في هذه الآية انفتاح تأويلات الباطنية فيما ذكر من الآيات إذ لا داعي لها هناك والداعي للتأويل بما ذكره الزمخشري قوي عنده، ولعله الفرار من لزوم المحال مع رعاية جزالة المعنى فإن ما اختاره أجزل من معنى الاستيلاء سواء كان معنى حقيقيًا للاستواء كما هو ظاهر كلام الصحاح والقاموس وغيرهما أو مجازيًا كما هو ظاهر جعلهم الحمل عليه تأويلًا.
واستدل الإمام على بطلان إرادة المعنى الظاهر بوجوه:
الأول: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولما خلق الخلق لم يحتج إلى ما كان غنيًا عنه.
الثاني: أن المستقر على العرش لابد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في يساره فيكون سبحانه وتعالى في نفسه مؤلفًا وهو محال في حقه تعالى للزوم الحدوث.
الثالث: أن المستقر على العرش أما أن يكون متمكنًا من الانتقال والحركة ويلزم حينئذٍ أن يكون سبحانه وتعالى محل الحركة والسكون وهو قول بالحدوث أو لا يكون متمكنًا من ذلك فيكون جل وعلا كالزمن بل أسوأ حالًا منه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
الرابع: أنه إن قيل بتخصيصه سبحانه وتعالى بهذا المكان وهو العرش احتيج إلى مخصص وهو افتقار ينزه الله تعالى عنه، وإن قيل بأنه عز وجل يحصل بكل مكان لزم مالًا يقوله عاقل.
الخامس: أن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [الشورى: 11] عام في نفي المماثلة فلو كان جالسًا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذٍ تبطل الآية.
السادس: أنه تعالى لو كان مستقرًا على العرش لكان محمولًا للملائكة لقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] وحامل حامل الشيء حامل لذلك الشيء وكيف يحمل المخلوق خالقه.
السابع: أنه لو كان المستقر في المكان إلهًا ينسد باب القدح في الهية الشمس والقمر.
الثامن: أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى قوم هي تحت بالنسبة إلى آخرين وبالعكس فيلزم من إثبات جهة الفوق للمعبود سبحانه إثبات الجهة المقابلة لها أيضًا بالنسبة إلى بعض، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال: المعبود تحت.
التاسع: أن الأمة أجمع على أن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الصمد: 1] من المحكمات وعلى فرض الاستقرار على العرش يلزم التركيب والانقسام فلا يكون سبحانه وتعالى أحدًا في الحقيقة فيبطل ذلك المحكم.
العاشر: أن الخليل عليه السلام قال: {لا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76] فلو كان تعالى مستقرًا على العرش لكان جسمًا آفلًا أبدًا فيندرج تحت عموم هذا القول انتهى.
ثم أنه عفا الله تعالى عنه ضعف القول بأنا نقطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به الظاهر بل مراده سبحانه شيء آخر ولكن لا نعين ذلك المراد خوفًا من الخطا بأنه عز وجل لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا نريد باللفظ إلا موضوعه في لسانهم وإذا كان لا معنى للاستواء في لسانهم إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله على الاستقرار فوجب حمله على الاستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وأنه غير جائز.
وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه الله تعالى مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وفيه توسط في المسألة.
وقد توسط ابن الهمام في المسايرة وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصرينا ابن عابدين الشامي في رد المحتار حاشية الدر المختار توسطًا أخص من هذا التوسط فذكر ما حاصله وجوب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش نفي التشبيه وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله:
فلما علونا واستوينا عليهم ** جعلناهم مرعى لنسر وطائر

وقوله قد استوى بشر البيت المشهور.
وعلى نحو ما ذكر كل ما ورد مما ظاهره الجسمية في الشاهد كالاصبع والقدم واليد.
ومخلص ذلك التوسط في القريب بين أن تدعو الحاجة إليه لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو لذلك.
ونقل أحمد زروق عن أبي حامد أنه قال: لا خلاف في وجوب التأويل عند تعين شبهة لا ترتفع إلا به.
وأنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقًا مع نفي التشبيه والتجسيم منهم الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام أحمد، والإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، وسعد بن معاذ المروزي، وعبد الله بن المبارك، وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، والترمذي، وأبو داود السجستاني.
ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن أبي يوسف عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشيء من ذاته ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه ولا يقول فيه برأيه شيئًا تبارك الله تعالى رب العالمين.
وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحد ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر فنثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه كما نفى سبحانه عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [الشورى: 11]، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح البخاري أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض حيث قال فيها: والذي نرتضيه رأيًا وندين به عقدًا اتباع سلف الأمة فالأولى الأتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات مع أنهم كانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنونًا أو محتومًا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق الاهتمام بفروع الشريعة وقد اختاره أيضًا الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين، وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة وهو آخر مصنفاته فيما، قيل: وقال البيضاوي في الطوالع: والأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء يعني المتشابهات ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفي ما يقتضي التشبيه والتجسيم عنه تعالى انتهى.